قبل 56 مليون سنة، اخترقت دفقة كربون مفاجئة وغريبة الغلاف الجوي فتسببت في رفع حرارة كوكب الأرض بشكل سريع. وفي لمحة جيولوجية، تغيّرت الحياة إلى الأبد.
بقلم: روبرت كونزيغ/ عدسة: إيرا بلوك
بقلم: روبرت كونزيغ/ عدسة: إيرا بلوك
لقد سبق للأرض أن مرّت باحتباس حراري من قبل، لكنها لم تصب بمثل هذه "الحمى" التي تعانيها اليوم على وجه التحديد؛ فقد كان العالم مختلفاً حينذاك، منذ 56 مليون سنة تقريباً. فالمحيط الأطلسي لم يكن قد انفتح بالكامل، وكانت الحيوانات، قادرة على المشي من آسيا عبر أوروبا وغرينلاند إلى أميركا الشمالية. ولم تكن لتصادف في طريقها ولو قطعة واحدة من الجليد. وحتى قبل ذلك التدفق الكربوني المفاجئ، كانت الأرض أصلاً أكثر دفئاً بكثير مما هي عليه اليوم. لكن بانقضاء العهد الباليوسيني (Paleocene Epoch) (امتد من 65.5 إلى 56 مليون سنة خلت) وحلول العهد الأيوسيني (Eocene Epoch) (استمر من 56 إلى 34 مليون سنة)؛ كانت حرارة الأرض على وشك الارتفاع أكثر فأكثر، بوتيرة سريعة وصفة جذرية.
وكان السبب في ذلك هو انطلاق الكربون وانتشاره بكميات هائلة ومفاجئة، بالمعنى الجيولوجي. لكن من غير المؤكد حجم كمية الكربون الذي غمر الغلاف الجوي أثناء فترة "الحد الأعلى الحراري الباليوسيني – الأيوسيني" (اختصارا فترة PETM)، او كما يسميها العماء الآن "فترة الحمى". لكنهم يقدرون أن هذه الكمية تكاد تعادل ما ينبعث في غلافنا الجوي اليوم فيما لو حرقنا جميع مخزون الأرض من الفحم الحجري، والنفط، والغاز الطبيعي. وقد استمرت فترة (PETM) أكثر من 150 ألف سنة إلى أن أعيد امتصاص فائض الكربون. وقد حملت هذه الفترة معها الجفاف، والفيضانات، والأوبئة التي سببتها الحشرات، وبعض حالات الانقراض. ومع ذلك فقد استمرت الحياة على الأرض، بل ازدهرت في الواقع، لكنها كانت مختلفة بصفة جذرية. واليوم فإن العواقب التطورية لذلك الارتفاع الكربوني الحاد – البعيد زمنياً – موجود حيثما ولينا وجوهنا، وهي تشملنا نحن البشر، في الواقع. والآن نحن أنفسنا من يعمد إلى تكرار ذات التجربة.
يقول فيليب غينغريتش، عالم حفريات قديمة مختص بالفقاريات، من جامعة ميتشيغان؛ إن فترة (PETM) "نموذج لما نحن بصدد الدخول فيه؛ إنها نموذج لما نقوم به من خلال تلاعبنا بالغلاف الجوي. إنه التفكير في إثارة شيء يفلت منك ويستغرق مئة ألف سنة ليستعيد توزنه من جديد".
وقد اكتشف غينغريتش وغيره من علماء الحفريات القديمة التحول التطوري العميق في العهد الباليوسيني قبل وقت طويل من ربط سببه بالكربون. وما يزال غينغريتش يبحث من 40 سنة عن أحافير تعود إلى ذلك العهد في حوض بيغ هورن، وهو عبارة عن هضبة قاحلة بطول 160 كيلومتراً تقعد تحديداً شرقي منتزه يلوستون الوطني في شمال ولاية وايومينغ. ويُمضي غينغريتش معظم وقته في الحفر عند جوانب هضبة مسطحة طويلة وضيقة تسمى بولكات بينش، والتي تنتؤ في الحافة الشمالية للحوض. وقد أصبحت بولكات بينش بمثابة بيته الثاني، وهو يمتلك بيتاً ريفياً صغيراً يمكن رؤيته من هذه الهضبة.
في ظهيرة يوم صيفي، ركبنا أنا وغينغريتش في سيارته، سابربان موديل 78، ذات اللون الأزرق السماوي وسرنا فوق مسار ترابي إلى قمة الهضبة ومن ثم انعطفنا نحو طرفها الجنوبي، والذي يمنح للناظر رؤية مميزة للحقول المرورية وآبار النفط المتناثرة التي تحيط بها. ويوضح غينغريتش أنه أثناء العصور الجيلدية الحديثة، كانت هضبة بولكات بينش تشكل قعر نهر شوشون وترصفه بالحصى الكبيرة. وفي وقت ما، حوّل النهر وجهته إلى الشرق وبدأ يشق طريقه إلى الأسفل عبر أقدم الترسبات وأكثرها ليونة، والتي تملأ بيغ هورن. وفي غضون ذلك، كان نهر يلوستون يقوم بالأمر نفسه من جهة تفرع كلاركس فورك. وتقع بولكات بينش الآن بين نهري شوشون ويلوستون وترتفع 150 متراً فوق أوديتهما. وعلى مدى آلاف السنين، نحتت رياح الشتاء وعواصف الصيف المطرية الجارفة جوانبيها وأحالتها أرضاً وعرة قاحلة، كاشفة عن طبقة من الترسبات كتلك الموجودة في الكعكة ذات الطبقات. وتنكشف ترسبات فترة (PETM) بالتحديد عند الطرف الجنوبي للهضبة.
وفي هذا المكان بالضبط وثّق غينغريتش "إنطلاقةً" هائلة للثدييات. وفي منتصف الطريق إلى أسفل المنحدر، تلتف طبقة كثيفة من الترسبات الحمراء بسمك يقرب من 30 متراً حول الطيّات والأخاديد، بلون زاه يختلف تمام الاختلاف عن باقي الطبقات الأخرى. وفي تلك الطبقة الكثيفة، اكتشف غينغريتش أحافير أقدم الثدييات ذات الحوافر مفردة الأصابع، والثدييات ذات الحوافر زوجية الأصابع، فضلاً عن الرئيسيات الحقيقة. وبعبارة أخرى، فإن ما عثر عليه غينغريتش هم الأعضاء الأوائل المنتمين إلى الرتب الحالية التي تشمل على التوالي، الخيل، والأبقار، والبشر. ومنذ ذلك الوقت، مافتئ المنقبون يعثرون على أحافير مماثلة في كل من آسيا وأوروبا. وهي تظهر في كل مكان وبصفة شبه فجائية. وبعد تسعة ملايين عام على الضربة العنيفة التي تلقتها شبه جزيرة يوكاتان من أحد الكويكبات، والتي أحدثت دماراً كبيراً يعتقد الآن غالبية العلماء أنه مسح الديناصورات من على وجه البسيطة؛ يبدو أن الأرض مرّت بصدمة أخرى في نظامها البيئي.
وخلال العقدين الأولين اللذين جهد فيهما غينغريتش نفسه لتوثيق المرحلة الانتقالية من العهد البياليوسيني إلى الأيوسيني، نظر جلُّ العلماء إلى هذه المرحلة على أنها ببساطة فترة أفسحت فيها مجموعة من الأحافير الطريق لوجود مجموعة أخرى. لكن ذلك التصور بدأ يتغير في عام 1991، عندما قام عالما المحيطات، جيمس كينيت ولويل ستوت، بتحليل نظائر الكربون – وهي أشكال مختلفة من ذرّة الكربون – في لب ترسبات مستخرجة من قاع المحيط الأطلسي بالقرب من القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا).
وعند الحدود الفاصلة بالتحديد بين العهد الباليوسيني والأيوسيني، أظهر تحوّل مفاجئ في نسبة نظائر الكربون في أحافير كائنات عضوية صغيرة جداً تسمى "المنخريات" (وهي حيوانات بحرية من خلية مجهرية واحدة ولها أصداف مثقوبة مكونة من الجير أو الكلس) أن كمية هائلة من الكربون "الطازج" كانت قد انهمرت في المحيط في زمن لم يتعد بضعة قرون. وكان بوسعها أن تنتشر في الغلاف الجوي أيضاً، وعلى الأرجح استجمعت هناك سخونة الشمس ورفعت حرارة الأرض. أما نظائر الأكسجين في المنخريات فقد دلت على أن المحيط بكامله كان قد أصبح أكثر دفئاً، من السطح وحتى وحل القعر، حيث عاشت معظم المنخريات.
وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأت تظهر نفس علامات الاضطراب المناخي الشديد عند بولكت بينش. وقام عالمان شابان، هما بول كوش من معهد كانيجي وجيمس زاكوس من جامعة ميتشيغان آنذاك، بجمع كتل بطول سنتيمتر من التربة الغنية بالكربونات في كلة طبقة من الترسبات. كما جمعا أسنان أحد الثدييات البدائية المنقرضة، يُدعى "فيناكودس". وعندما عمد كوش وزاكوس إلى تحليل نسَب نظائر الكربون في التربة وفي ميناء الأسنان، وجدا نفس الارتفاع الحاد للكربون الذي شوهد في المنخريات. وعندما أصبح واضحاً أكثر فأكثر أن (PETM) كانت فترة احتباس حراري عالمية لم يقتصر تأثيرها على الكائنات العضوية البحرية المغمورة، بل امتد إلى حيوانات الأرض الكبيرة والمهيبة. وهكذا اهتدى العلماء إلى أنهم يمكن أن يستخدموا ارتفاع الكربون الحاد – الدليل القاطع على انبعاث غازات الدفيئة – لتحديد فترة (PETM) في الصخور حول العالم بأسره.
وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأت تظهر نفس علامات الاضطراب المناخي الشديد عند بولكت بينش. وقام عالمان شابان، هما بول كوش من معهد كانيجي وجيمس زاكوس من جامعة ميتشيغان آنذاك، بجمع كتل بطول سنتيمتر من التربة الغنية بالكربونات في كلة طبقة من الترسبات. كما جمعا أسنان أحد الثدييات البدائية المنقرضة، يُدعى "فيناكودس". وعندما عمد كوش وزاكوس إلى تحليل نسَب نظائر الكربون في التربة وفي ميناء الأسنان، وجدا نفس الارتفاع الحاد للكربون الذي شوهد في المنخريات. وعندما أصبح واضحاً أكثر فأكثر أن (PETM) كانت فترة احتباس حراري عالمية لم يقتصر تأثيرها على الكائنات العضوية البحرية المغمورة، بل امتد إلى حيوانات الأرض الكبيرة والمهيبة. وهكذا اهتدى العلماء إلى أنهم يمكن أن يستخدموا ارتفاع الكربون الحاد – الدليل القاطع على انبعاث غازات الدفيئة – لتحديد فترة (PETM) في الصخور حول العالم بأسره.
تدلّ الثقوب الكثيرة في أحافير الأوراق من قبيل هذه على أن عدد الحشرات ونهمها في حوض بيغ هورن زاد أكثر مع ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون والحرارة أثناء فترة (PETM). |
لكن، من أين أتى كل هذا الكربون؟ صار في حكم المعلوم اليوم مصدر فائض الكربون الذي يغمر الغلاف الجوي؛ إنه نحن البشر. بيد أنه لم يكن هناك بشر قبل حوالي 56 مليون سنة، فما بالك بالسيارات ومحطات توليد الطاقة. وقد قدم العلماء العديد من الافتراضات بشأن مصادر هذا الارتفاع الحاد للكربون في فترة (PETM). لكن، بالنظر إلى كميته الهائلة؛ فإنه كان على الأرجح من أكثر من مصدر. وفي نهاية العهد الباليوسيني، كانت أوروبا وغرينلاند تنفصلان وتفتحان شمال الأطلسي ما أدى إلى انفجارات بركانية ضخمة كانت ذات قوة كافية لتبخير ثاني أكسيد الكربون من الترسبات العضوية في قعر البحر، ولو أنها ربما لم تكن بسرعة كافية من شأنها تفسير الارتفاعات الحادة في النظائر الكربونية. ومن المحتمل أن تكون النيران الهائلة سريعة الانتشار قد احترقت عبر تراكمات الخث (حطام نباتي لم يُدفن إلى عمق يكفي لتحوله إلى فحم) من العهد الباليوسيني، رغن أن السخام الناجم عن مثل هذه النيران لم يظهر بعد في الترسبات، منذ ذلك الحين. كما يمكن أن يكون تحطم مذنب عملاق وانسحاقه على صخور كربونية قد أطلق كميات كبيرة من الكربونات بسرعة فائقة، لكن إلى اليوم، ما من دليل مباشر لمثل هذا التأثير.
وبحسب الفرضية الأقدم والأكثير شيوعاً حتى الآن، فإن الكثير من الكربون أتى من تراكمات ضخمة لهيدرات الميثان، وهو مركّب فريد يشبه الجليد يتألف من جزيئات الماء التي تشكّل فقصاً حول جزيئة ميثان منفردة. ولاتكون الهيدرات مستقرة إلا في شريط ضيّق به درجات حرارة منخفضة وضغط مرتفع؛ ويتم العثور على تراكمات كبيرة من هذه الهيدرات اليوم تحت تندرا القطب الشمالي (وهي منطقة جرداء في المنطقة القطبية الشمالية)، وتحت أعماق المحيط. وفي فترة (PETM)، ربما يكون ارتفاع أوّلي في درجات الحرارة من مصدر ما – لعلها تكون البراكين أو ربما تقلبات طفيفة في مدار الأرض هي من عرّض أجزاء منها لمزيد من ضوء الشمس – أذاب الهيدرات وأتاح لجزيئات الميثان الانزلاق من قفصها ودخول الغلاف الجويّ.
أن هذه الفرضية تنذر بالخطر، فالميثان في الغلاف الجوي يرفع حرارة الأرض أكثر من 20 مرة في الجزيئة الواحدة أكثر مما يفعل ثاني أكسيد الكربون؛ وبعد عقد أوعقدين يتأكسد إلى ثاني أكسيد الكربون وتستمر حرارته في الارتفاع لمدة طويلة. ويعتقد العديد من العلماء أن مثل هذا السيناريو بالتحديد قد يحدث اليوم؛ فقد يؤدي ارتفاع الحرارة الذي سيببه احتراق الوقود الأحفوري إلى انبعاث الميثان من أعماق البحر والقطب المتجمد الشمالي بطريقة تخرج عن السيطرة.
واستنتج كوش وزاكوس من بياناتهما أن فترة (PETM) رفعت معدل الحرارة السنوي في حوض بيغ هورن حوالي خمس درجات مئوية. وهي نسبة تفوق ارتفاع الحرارة الذي حصل هناك منذ آخر عصر جيلدي؛ وتفوق بقليل توقعات نماذج المناخ هناك للقرن الحادي والعشرين – ولكنها دون ذات التوقعات الخاصة بالقرون المقبلة فيما لو استمر البشر في حرق الوقود الأحفوري. كما تتوقع هذه النماذج حدوث اختلالات حادة في أنماط التساقطات المطرية في العالم، حتى خلال هذا القرن نفسه، خصوصاً في المناطق شبه الإستوائية مثل الجنوب الغربي الأميركي. لكن كيف لنا أن نختبر هذه النماذج؟ يقول عالم الجيولوجيا السويدي بورغر شميتز، الذي أمضى عقداً من الزمن يدرس صخور فترة (PETM) في جبال البيرينية الإسبانية "لا يمكنك الانتظار مئة أو مئتي سنة لترى مالذي حدث، وهذا ما يجعل قصة فترة (PETM) مهمة جداً. فلديك النتيجة النهائية؛ وتستطيع أن ترى ما الذي حدث بالفعل".
وأما ما حدث في حوض بيغ هورن فقد كان بمثابة إعادة ترتيب للحياة على نطاق واسع. ويعمل سكوت وينغ، المختص بدراسة النباتات القديمة في السجل الأحفور (Paleobotanist)، من متحف سميشسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي، على تجميع أوراق النباتات الأحفورية في بيغ هورن منذ 36 صيفاً – وهي أوراق كثيرة بصفة لن تجعل له قط ما يكفي من الوقت لدراستها على النحو الشمولي كما يود. وخلال كل سنة عند نهاية الصيف، وبينما يفرغ صناديق الأحافير صندوقاً بعد آخر، يقول وينغ لنفسه إنه سيكون عقلانياً في السنة المقبلة ويبقى في واشنطن العاصمة للعمل على إنهاء تصنيف هذه الأوراق. لكن مع قدوم شهر يوليو، يعود إلى الحفر مجدداً على أمل "الوصول إلى لحظة اليوريكا"، على حد قوله.
وقبل سنوات قليلة توصل وينغ فعلاً إلى هذه اللحظة؛ إذ يقول "لقد بحثت زهاء عشر سنوات عن تراكم أحافير مثل هذا". وقد كنا نجلس على جانب هضبة تقع 25 كيلومتراً جنوبي الطريق السريع 16 بين تن سليب ووورلاند، إلى الغرب من جبال بيغ هورن؛ ونحن نطرق على صخور في خندق حفره مساعدو وينغ. وعلى المنحدرات البعيدة، يمكن رؤية خطوط أفقية حمراء مرتبة، يتخللها اللونان الرمادي والأصفر، والتي تحدد تاريخ تلك البقاع الأرضية بكونها تعود إلى زمن يصل إلى فترة (PETM). وإلى الأسفل، كانت تظهر مضخة رافعة تتحرك مثل لعبة المرجحة، ولا يُسمع صوتها. ومن أعلى الهضبة، كانت حوالي ست مضخات رافعة أخرى تبدو للعيان. وبين فواصل الصمت في محادثاتنا، كان الصوت الوحيد المسموع هو إيقاعات موسيقية تحدثها المطارق؛ صوت دوي مكتوم، وأزيز بعيد متردد الصدى وكأنه منبعث من أداة معايرة الآلات الموسيقية، وصرصرة الصخور وانسحاقها وهي تتكسر. وعند ضرب الصخرة باستمرار، يظهر السطح الذي يفصل بين طبقتين من الطين تبدوان أحياناً مثل القشدة بين طبقتي كعكة صغيرة، حيث تنكشف ورقة نبات محفوظة بإتقان كبير لدرجة أنها أتاحت لوينغ بعدسته المكبّرة الصغيرة رؤية آثر الآجزاء التي قضمتها الحشرات منها قبل 56 مليون سنة.
وقد عرف وينغ للتو متى وجد أول تراكم لأحافير الأوراق النباتية من فترة (PETM). "العديد من هذه النباتات لم أرها قط من قبل"، يقول وينغ. وقد أظهرت الأحافير التي جمعها سابقاً أنه قبل ارتفاع الحرارة وبعده، كان الحوض مغطى بغابة كثيفة من أشجار البتولا، والجميّز، والجبّارة (من فصيلة الصنوبر) والنخيل، وأشجار دائمة الخضرة تشبه شجر الماغنولية. ولا شك أن الأرض كانت رطبة وهشة تحت الأقدام، كما هو الحال اليوم مع أتكافيلايا (وهو مستنقع في جنوب وسط لويزيانا) أو أوكيفينوكي (مستنقع في جنوب شرق جورجيا وشمالي شرق فلوريدا). وكان بيغ هورن خلال كل من العهدين الباليوسيني والأيوسيني مثل شمالي فلوريدا اليوم.
لكن في ذروة فترة (PETM)، وجد وينغ أن المنظر الطبيعي تغيّر إلى شيء مختلف تماماً. فقد أصبح أكثر جفافاً وانفتاحاً على الصعيد الموسمي، مثل الغابات الإستوائية الجافة في أميركا الوسطى. ومع ارتفاع حرارة الأرض، هاجرت أجناس جديدة من النباتات بسرعة إلى الحوض من مناطق جنوبية بعيدة وصلت إلى ساحل الخليج في الولايات المتحدة، وهي مسافة تفوق 1,500 كيلومتر على طول دائرة خط العرض. وكان معظم هذه النباتات من الفاصولياء – ليست كتلك التي نزرعها اليوم، لكنها أشجار من نفس الفصيلة وتشبه الميموزا الحديثة. وقد اجتاحتها الحشرات وأصابت معظمها.
ومن بين مئات أحافير أوراق النبات التي فحصها وينغ وزميلته إيلين كورانو من جامعة ميامي في أوهايو، كانت ست أوراق تقريباً من بين عشر تخترقها ثقوب أو مسارات مقوسة بفعل الحشرات. ولعل الحرّ نشّط عملية الأيض لدى الحشرات فأدى إلى زيادة نهمها على الأكل والتكاثر. أو ربما أثّر فائض ثاني أكسيد الكربون على هذه النباتات بشكل مباشر؛ إذ عندما يُطلق هذا الغاز في البيوت الزجاجية الحديثة، تنمو النباتات أكثر، لكن محتوى البروتين فيها يكون أضعف فينقص من القيمة الغذائية لأوراقها. وربما حدث الأمر ذاته في دفيئة عالم فترة (PETM)؛ إذ من الممكن أن الحشرات احتاجت إلى تناول الكثير من أوراق النباتات لكي تشبع وتشعر بالامتلاء.
بيد أن الأوراق التي قضمتها الحشرات في فترة (PETM) كانت أيضاً أصغر بكثير من أسلافها في العهد الباليوسيني، وذلك، يوضح وينغ، أن التساقطات المطرية انخفضت حوالي 40 بالمئة. (عندما يشحّ الماء، تخفف النباتات من خسارة الماء عبر انكماش أوراقها). كما أعطى الانخفاض في التساقطات المطرية فرصة للتربة كي تجفّ كل سنة، وإلى الحديد فيها لكي يتأكسد وتحوّل إلى صدأ أحمر. وأصبحت هذه التربة موسمية الجفاف هي الأشرطة السميكة الواسعة التي تظهر كخطوط في جوانب الهضاب. وبعدها في ذروة فترة (PETM)، اختفت الطبقات الحمراء، ليس لكون المناخ ازداد رطوبة عموماً، لكن – يوضح وينغ – لأن الأمطار أصبحت أكثر تركزاً مثل الرياح الموسمية. وكانت الأنهار في الحوض تتجاوز ضفافها باستمرار وتفيض على المناطق الريفية فتجرف معها التربة قبل أن تصبح عميقة.
وفي البيرينيه الشرقية، وجد بورغر شميتز دليلاً أكثر إثارة عن الفيضان الكارثي في فترة (PETM). وقد حدد بورغر، مع زميله فيكتوريانو بوجالتي من جامعة الباسك في بيلباو بإسبانيا، خاصية ارتفاع الكربون الحاد عند قاعدة تكوين صخري من المحتمل أنه وُجد على الأرض المنبسطة الساحلية آنذاك، ولو أنه موجود اليوم في أعالي الجبال. وقد تآكل حقل من الجلاميد وسقط عن الجبال المتبرعمة على رقة (سهلى ناشئ عن الأتربة التي تخلفها مياه الفيضان) شاسعة يعتقد العلماء أنها امتدت على مساحة فاقت آلاف الكيلومترات المربعة. وقد كانت بعض هذه الجلاميد بعرض نصف متر وما كان بوسعها أن تستقر هنالك إلا بفعل اندفاعة مياه عنيفة على نحو استثنائي. وبتموضعها هناك جراء الأنهار الفائضة عبر قرون من الزمن فهي مثل بصمات أحفورية للطاقة في الغلاف الجوي الدفيء.
وفيما كانت أشجار الفاصولياء تزهر في حوض بيغ هورن، كان "أبيكتودينيوم" ينمو في كافة أرجاء المحيط. وهذا الجنس من الأحياء هو شكل منقرض من "الدينوفلاجيلاّت" (ثنائيات السوط)؛ وهي مجموعة عوالق مجهرية أحادية الخلية، ينتج بعضها اليوم زهراً ساماً يُعرف باسم المدّ الأحمر. وتمتلك جميع العوالق المجهرية أحادية الخلية سوطين اثنين تحركهما بسرعة لكي تنتقل عبر الماء؛ وهي حركة مميزة مثّلها أمامي ذات يوم، هينك برينكويس، من جامعة أوتريخت في هولندا، عن طريق ثني ذراع واحدة بين ساقيه ووضع الآخرى حول بطنه البارزة قليلاً، ومن ثم تحريك الذراعين معاً. وفي فصل الشتاء، تنسحب خلايا "أبيكتودينويوم" إلى حوصلات صلبة وتنزل عميقاً في قعر البحر. وفي الربيع التالي، تنبثق فتحة في كل حوصلة بسرعة مثل باب سري. عندها تزحف الخلية خارجاً وتصعد إلى سطح البحر مخلفة وراءها الحوصلة فارغة ليتمكن برينكويس وزميله آبي سلويج من التعرف عليها في نماذج الترسبات بعد 56 مليون سنة – مع فتحتها المشرعة كدليل وحيد على تاريخ حياة شبيه بالمخلوقات الفضائية. وفي مكتب برينكويس ثمة ملص كُتب عليه "كل ما أعرفه تعلّمته من فيلم ستار تريك".
أما بالنسبة لما قبل فترة (PETM)، فقد توصل برينكويس وسليوج إلى أن "أبيكتودينيوم" لا يوجد سوى في المناطق شبه الإستوائية. لكن في ترسبات فترة (PETM)، وجداه في كل أنحاء العالم؛ وهذا تأكيد على أن حرارة المحيط كانت تزداد في كل أنحاء العالم؛ وهذا تأكيد على أن حرارة المحيط كانت تزداد في كل مكان. وفي العهد الباليوسيني، كانت حرارة الماء صيفاً في المحيط المتجمد الشمالي قد بلغت حوالي 18 درجة مئوية؛ وارتفعت بسرعة خلال العهد الباليوسيني إلى حوالي 23. وكانت السباحة هناك شبيهة بالسباحة اليوم في ساحل وسط الأطلسي، وكان هذا الأخير سيبدو شبيهاً بالكاريبي اليوم، استناداً إلى تحلليلات برينكويس وسلويج للب الترسبات في نيوجيرسي. أما اليوم فإن حرارة الماء في عمق قعر البحر هي فوق درجة التجمد تماما، وفي فترة (PETM) كانت منحصرة بين 10 و20 درجة مئوية.
وفيما كان المحيط يمتص ثاني أكسيد الكربون الذي كان يرفع درجة حرارة الكوكب، صار الماء أيضاً أكثر تحمضاً، تماماً كما سيكون عليه الحال خلال القرن المقبل عندما سترتفع مستويات ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى. وهذا أمر تدعمه وتؤكده بعض ترسبات أعماق البحر، حيث فترة (PETM) واضحة مثل الشرائط في حوض بيغ هورن. وفي عام 2003، ذهب سلويج في بعثة استكشافية بقيادة جيمس زاكوس إلى "والفيس ريدج"، وهي سلسلة جبال تحت بحرية في جنوب الأطلسي. وقد استخرجت البعثة ترسبات من باطن الأرض من أعماق متدرجة على جوانب سلسلة الجبال، وكانوا كلما فتحوا لب الترسبات على سطح المركب سرعان مايجدون طبقة تعود لفترة (PETM). ويقول سليوج "إنها كانت تبرز بطريقة مدهشة ومتميزة؛ إنها طين أحمر تماماً".
وكان هذا الطين بارزاً بشكل واضح بسبب ما كان يفتقر إليه؛ أي المادة البيضاء المنتشرة لكربونات الكالسيوم التي تلمع أعلى وأسفل ترسبات فترة (PETM). فأثناء فترة (PETM) كان المحيط المتحمض قد أذاب كربونات الكالسيوم عن آخرها. وعند هذه اللحظة من الزمن، قد يتوقع أحدهم قصة بسيطة ذات مغزى أخلاقي: المحيط المتحمض يؤدي إلى هلاك أعداد لا تحصى من أشكال الحياة، مذيباً صدفات المرجان، والمحار، والمنخريات؛ وهو سيناريو القرن الحادي والعشرين يتصور العديد من العلماء حدوثه اليوم. لكن فترة (PETM) تبقى أكثر إثارة للحيرة من ذلك. ورغم أن الحيود المرجانية في محيط التيثيس، وهو بحر قديم سالف للبحر المتوسط يمرّ عبر الشرق الأوسط، تبدو وقد عانت من تأثيرات حادة. فإن الانقراض الجماعي الوحيد الموثق في فترة (PETM) هو انقراض غير متوقع؛ لقد ضرب حوالي نصف أجناس المنخريات التي كانت تعيش في القعر الموحل. وقد كانت كائنات حيّة متكيفة ومتآلفة مع مجموعة متنوعة من الظروف البيئية، وكان يمكن لها أن تتعامل وتتعايش مع كل الضغوط أو المشاكل التي تحل عليها جراء فترة (PETM).
وبالنظر إلى درجة تحمض المحيط، قدّر زاكوس وزملاؤه أن دفقة كربون أولية مفاجئة من حوالي ثلاثة تريليونات طن متري غمرت الغلاف الجوي، ثم تّسرب تريليون ونصف تريليون آخرى بشكل أكثر تدرجاً. ويقارب مجموع 4.5 تريليون طن، إجمالي الكربون الذي يقّدر أنه محفوظ اليوم في مخزون الوقود الأحفوري. وتوازي تلك الدفقة الأولية المفاجئة حوالي ثلاثة قرون من الانبعاثات التي يسببها الإنسان بالمعدل الحالي. ورغم أن هذه البيانات غير قاطعة، فإن معظم العلماء يفترضون أن الانفجار الحراري لفترة (PETM) كان أبطأ وتيرة واستغرق آلاف السنين.
ومهما كانت سرعة انبعاث الكربون، فقد كان سيأخذ وقتاً أطول بكثير لكي تزيله العمليات الجيولوجية. وفيما ذابت الكربونات في قعر البحر، مقاومة بذلك التحمض، كان المحيط قادراً على امتصاص المزيد من ثاني أكسيد الكربون، وفي غضون بضعة قرون أو ألفيات من الدفق الكربوني المفاجئ، كان الارتفاع الحاد لأول أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قد انتهى. وفي أثناء ذلك، كان ثاني أكسيد الكربون يذوب أيضاً في رذاذ المطر، والذي رشح مادة الكالسيوم من الصخور على الأرض وجرفها إلى البحر حيث امتزجت مع أيونات الكربونات لتشكّل المزيد من كربونات الكالسيوم. وهي عملية تحدث طوال الوقت، وتعرف باسم (weathering)، وهي عبارة عن تفاعلات معقدة للعمليات الفيزيائية، والكيميائية، والحيوية تُحدث تغييرات على نحو خاص أو عام على الصخور؛ غير أنها كانت أسرع أثناء فترة (PETM) لأن المناخ كان أكثر حرارة والمطر أكثر تحمضاً. وقد أزال المطر تدريجياً ثاني أكسيد الكربون المُضاف من الغلاف الجوي، وانتهى أخيراً في الأحجار الجيرية عند قعر البحر. ورويداً رويداً عاد المناخ إلى حالته السابقة. يقول زاكوس "يشبه الأمر تماماً وضع الوقود الأحفوري اليوم. فنحن نأخذ مااستغرق ملايين السنين للتراكم ونعمل على إطلاقه في لحظة من الزمن الجيولوجي. وفي النهاية، سيعيده النظام البيئي إلى الصخور، لكن هذا سوف يستغرق مئات آلاف السنين".
كما أن مات هوبير، المختص بتطوير النماذج المناخية، والذي أمضى معظم حياته المهنية محاولاً فهم فترة (PETM)، حاول هو أيضاً توّقع ما الذي يمكن أن يحدث لو اختار البشر حرق مخزون الوقود الأحفوري بأكمله. ويستخدم هوبير نموذجاً مناخياً تمّ تطويرة من قِبل المركز الوطني للبحوث الجوية في كولورادو، وهو أحد النماذج الأكثر حساسية واستجابة لثاني أكسيد الكربون. ومازالت النتائج التي توّصل إليها "جهنمية". وفي ما يسميه "أفضل التخمينات المنطقية لأسوأ سيناريو" (أسوأ توقعاته يكمن في "سيناريو الحرق العالمي")، سوف تصبح مناطق حيث يعيش اليوم نصف سكان الأرض غير قابلة تقريباً للعيش. وفي معظم أنحاء الصين، والهند، وجنوب أوروبا، والولايات المتحدة، سيكون متوسط حرارة الصيف أعلى بكثير من 37 درجة مئوية، ليلاً ونهاراً، عاماً بعد عام.
وبحسب هوبير فإن علماء المناخ لا يتحدثون في الغالب عن مثل هذه التوقعات المروّعة طويلة المدى، وذلك يعود جزئياً لكون المشككين، ممن يرتابون من المبالغات العلمية غير المؤكدة، يتهمونهم دائماً بخلق حالة من الإنذار المفرط. ويضيف هوبير "نحن نحاول على الدوام تنقيح أقوالنا بشكل أساسي ونميل إلى كبح أنفسنا كلما رأينا أمراً سيئاً بالفعل. لكن المنطقة الوسطى في هذا الشأن أسوأ بكثير مما يعتقده الناس؛ وإذا مضينا قدماً في هذا الطريق، فلن يكون هنالك مبالغات أو ظنون. نحن نتجه إلى العهد الأيوسيني، ونحن نعرف ماذا يعني ذلك".
في فترة (PETM)، دفع الحرّ بالأجناس الإستوائية إلى الهجرة باتجاه القطبين، وكان باستطاعة الأجناس الحيوانية والنباتية من جميع القارات عبور البرازخ والاندماج معاً في الحياة. وقد ظهرت في بيغ هرون الحيوانات ذات الحوافر القادرة على الركض، أسلاف الخيول الأيائل. وبعدها بمدة قليلة – ربما مع ارتفاع رطوبة المناخ مرة أخرى وشروع ظلة الغابات بالانغلاق فوق الأرض الأكثر انفتاحاً التي كانت قد رحبت بالحيوانات الراكضة – ظهرت أولى الرئيسيات الحقيقة.
وينحدر البشر، فضلاً عن كل الرئيسيات الأخرى التي تعيش اليوم، من رئيسيات من فترة (PETM)؛ تماماً مثلما تنحدر الثدييات ذات الحوافر زوجية الأصابع، كالخيل ووحيد القرن من أسلاف أخرى تعود لفترة (PETM)؛ والحيوانات المجترة مفردة الأصابع كالأيائل، والأبقار، والإبل، والخراف، من أسلاف أخرى من نفس الفترة أيضاً. ولعل الأجناس التي ظهرت فجأة في بيغ هورن هاجرت من آسيا، حيث وُجدت عيّنات أحافير أقدم قليلاً من تلك تمّ العثور عليها في بيغ هورن. لذلك، لا شك أن تلك الأجناس بدورها كان لها أسلاف أبعد في العهد الباليوسيني. لكن ليس هنالك حتى الآن أحافير من العهد الباليوسيني يمكن لعلماء التاريخ البشري الأحفوري أن ينظروا إليها ويعرّفهوها كرئيسيات أو خيل، وليس الأمر بسبب نقص في البحث، كما أخبرني غينغريتش.
وأثناء فترة (PETM) ذاتها، حدث أمر غريب لبعض الثدييات؛ فقد أصبحت أصغر حجماً. وهكذا انكمشت الخيول في بيغ هورن إلى حجم قطط سيامية؛ وعندما بدأ الكربون بالإنحسار من الغلاف الجوي، كبر حجم الخيول مرة أخرى. ومن غير الواضح ما إذا كان الحرّ أو ثاني أكسيد الكربون نفس هو الذي أدى إلى انكماشها. لكن الدرس المستفاد من ذلك، كما يقول غينغريتش، هو أن الحيوانات تستطيع التطوّر سريعاً في بيئة متغيرة. وعندما قاد غينغريتش سيارته إلى بيغ هورن للمرة الأولى قبل أربعة عقود، كان هدفه بالتحديد دراسة المصدر الذي انحدرت منه هذه الخيول والرئيسيات. وهو يعتقد الآن أنها والثدييات ذات الحوافر مفردة الأصابع تعود إلى فترة (PETM)؛ وأن هذه الفصائل الثلاث للثدييات الحديثة اكتسبت خواصها المميزة حينذاك، في فورة تطوّر سبّبتها دفقة الكربون المفاجئة في الغلاف الجوي.
وبعد 56 مليون سنة صارت الرئيسيات، والتي كانت بحجم الفئران أو الأرانب خلال العهد الباليوسيني، تعتلي قمة السلاسل الغذائية وباتت الأكثر تطوراً من بين الأجناس. وفقد استطاعت أن تروض غيرها من السلالات المنحدرة من فترة (PETM) - مثل الخيول والأبقار، والخنازير، والخراف – وانتشرت وإياها في كافة أرجاء الأرض. وهكذا تحوّلت الرئيسيات إلى أسلوب حياة تجاوز الزراعة، وهو أسلوب رغم كونه دائم التغير فإنه يكاد يكون دائم الاعتماد على الوقود الأحفوري.
وفيما كنت أنا وغينغريتش نهتزّ في سيارته عبر المطبات على طول قمة بولكات بينش، مروراً بالعشب الطويل في المراعي المهجورة، رأينا مضخات رافعة تتحرك إلى الأعلى والأسفل على مهل وهي تجذب النفط من العصر الطباشيري إلى السطح، كما تفعل في بيغ هورن. وإلى الشرق في حضو باودر ريفر، تحفر مجارف عملاقة طبقات رقيقة من الفحك الحجري من العهد الباليوسيني، والذي يضيء منزلاً من أصل خمسة في الولايات المتحدة.
لقد أطلق حرق الوقود الأحفوري أكثر من 3000 مليار طن من الكربون منذ القرن الثامن عشر – ربما أقل من عُشر ما تبقى في جوف الأرض أو ما انبعث في فترة (PETM). ولا تخبرنا هذه المرحلة ما الذي سيصيب الحياة على الأرض لو اخترنا حرق المخزون المتبقي من الوقود الأحفوري. (سجلت الانبعاثات العالمية رقماً قياسياً آخر في العام الماضي). ولعلنا سنشهد فورة ابتكار تطوري مثل ذلك الذي أدى إلى ظهر أسلافنا من الرئيسيات. وربما ستحدث هذه المرة، مع كل الضغوطات الأخرى على الأجناس، حالات انقراض جماعية. وهكذا فإن فترة (PETM) تضع هذا الخيارة ضمن منظور طويل فحسب؛ وبعد عشرات ملايين السنين، ومهما حدث للبشرية، قد يكون نمط الحياة على الأرض برمته مختلفاً بصفة جذرية عما كان يمكن أن يكون، وهذا ببساطة سببه طريقة تبذيرنا للطاقة خلال بضعة قرون.
1 Comments
Thank you for your wonderful topics :)
ReplyDelete