بقلم: ديفيد دوبز/ عدسة: كيترا كاهانا
مزاجيون، ومندفعون، ومغيظون؛ إنهم المراهقون. لكن لماذا يتصرفون على هذا النحو؟ من منظور تطوري، قد تمثل السمات الأكثر إثارة للسخط عند المراقه مفتاحاً لنجاحة عند بلوغه سن الرشد.
من مرآة شاحنة والديها، تظهر إيمي "داندليون" أولسون، الطالبة في الصف الثانوي الأخير، في انتظار إشارة مرورية وسط مدينة أوستين، بولاية تكساس. |
كل الآباء يعرفون أن ابنهم المراهق قد يُقبل على ركوب هذه المجازفة أو تلك، غير أنهم يمكن أن يصدموا عند سماعهم بها. وهذا بالضبط ماحدث معي قبل سنوا معدودات؛ ففي صبيحة يوم صحو من أيام مايو، هاتفني ابني البكر، الذي كان حينها في الـ17، ليخبرني عن خروجه للتو من مخفر شرطة الولاية بعد قضائه بضع ساعات هناك. والظاهر أنه كان يقود السيارة "بسرعة فائقة بعض الشيء". وسألته مستغرباً ماذا يعني بـ "بعض الشيء"؟ فتبين لي أن صنيع جيناتي هذا، وفلذة كبدي، الذي داعبته ولاعبته وربيته صغيراً حتى اشتد عوده وصار على وشك الالتحاق بعالم الرجال؛ كان يقود على الطريق السريع بسرعة 182 كيلومتراً في الساعة.
وعندها قلت له "هذا أكثر من بعض الشيء".وقد وافقني هذا الرأي، بل إنه بدا مهموماً ونادماً، في حقيقة الأمر. كما أنه لم يعترض عندما أخبرته أنه سيتعين عليه دفع قيمة الغرامات وربما حتى أتعاب المحامي. ولم يجادلني عندما أفهمته أنه إذا ما حدث أي أمر طارئ عند تلك السرعة، مثل عبور كلب أو انفجار عجلة، أو حتى عطسة؛ فإن الموت هو المآل. لقد بدا منكسر اللب بدرجة مزعجة، حتى إنه قال بأن الشرطي أحسن صنعاً بتوقيفه، إذ "لا يمكننا جميعاً أن نسير بهذه السرعة"، على حد قوه. إلا أنه اعترض على شيء واحد؛ لم يعجبه أنّ من بين المخالفات العديدة التي وجهت إليه، كانت هناك واحدة تحت بند القيادة المتهورة. عندئذ قلت بغضب، وأنا أتحسس أخيراً فرصة للصراخ في وجهه، "حسناً، وماذا تسمي ذلك إذن"؟
فردّ علي بهدوء "هذا وصف غير صحيح فحسب، فكلمة التهور تفيد أنك غير يقظ. لكنني لم أكن كذلك. فقد تعمدت السير بتلك السرعة على طريق خال وغير زلق وفي وضَح النهار، حيث كانت الرؤية جيدة والطريق سالكاً وحركة السير منعدمة. أقصد أنني لم أكن أضغط على دواسة البنزين فحسب، بل كنت أقود السيارة بانتباه. أعتقد أن هذا ما أريدك أن تعرفه؛ إذا كان ذلك سيشعرك بالارتياح، فدعني أخبرك أنني كنت في غاية التركيز". والحقيقة أن ذلك أشعرني بالارتياح فعلاً وهذا أمر أربكني، لأنني لم أفهم سبب ارتياحي من توضيحاته تلك. أما الآن فقد فهمت. إن مغامرة السرعة الفائقة التي خاضها ابني تطرح سؤالاً لطالما سأله أشخاص دأبوا على تدبر حال وأحوال فئة من البشر تُدعى المراهقين: تُرى ما الذي كان يدور في خلده بصنيعه ذاك؟ سؤال عادة ما يطرحه الآباء بضيغة الشتم، لكن العلماء يطرحونه بنوع من التجرد، وهو يسألون؛ ما الذي يبرر هذا السلوك؟ لكن حتى هذا السؤال لا يغدو كونه طريقة أخرى للتعجب، فما خطب هؤلاء الأولاد؟ لم يتصرفون هكذا؟ وسريعاً يصير السؤال حُكماً وإدانة حتى قبل بلوغ الإجابة.
وعبر الأزمنة، كانت أغلب الأجوبة تشير إلى قوى خفية تؤثر في المراهق على نحو استثنائي. وقد توصل أرسطو قبل أكثر من 2300 سنة إلى أن "الطبيعة تهيج الشباب كما يهيج الخمر الرجال". وفي مسرحة "حكاية شتاء" لويليام شكسبير، يتمنى أحد الرعاة "أن لا عمر بين السادسة عشرة والثالثة والعشرين، أو أن يرقد الشباب طيلة هذه المدة، لأن ما من شيء خلالها عدا مغازلة الفتيات، وعقوق الآباء والأجداد، والسرقة، والشجار". ويخيم رثاء هذا الراعي على أحدث البحوث العلمية أيضاً؛ إذ إن جي. ستانلي هول، الذي يعتبر مؤسس سكولوجية المراهقة من خلال كتابه الصادر عام 1904 بعنوان "المراهقة: سيكولوجيتها وعلاقاتها بالفسيولوجيا والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، والجنس، والجريمة، والدين، والتربية"، كان يعتقد أن هذه الفترة "العاصفة والعصبية – Storm & Stress" إعادة إنتاج لمراحل أسبق، وأقل تحضراً، في مسيرة تطور المجتمع البشري. أما فرويد فكان يرى في المراهقة تمظهراً لصراع نفسي وجنسي عنيف؛ في حين وصفها إريك إريكسون بأنها الأزمة الأشد اضطراباً وهيجاناً ضمن عديد أزمات الهوية التي يمر بها الإنسان في حياته. تعددت التفسيرات والنتيجة واحدة؛ المراهقة مشكلة على الدوام.
وقد استمر هذا التصور حتى أواخر القرن العشرين، عندما طور الباحثون تكنولوجيا تصوير الدماغ، التي أتاحت سبر أغوار دماغ المراهق بتفاصيل كافية لتتبع تطوره الفيزيائي وأنماط نشاطه. وهذه التكنولوجيا أوجدت طريقة جديدة لطرح السؤال نفسه – ما خطب هؤلاء الأولاد؟ - فكشفت عن جواب فاجأ الجميع تقريباً. فقد تبين أن أدمغتنا تستغرق وقتاً أطول بكثير لتنمو، بخلاف الاعتقاد السائد في السابق؛ وهو اكتشاف أوحى بوجود تفسيرين اثنين لسلوك المراهقين المغيظ أحدهما تبسيطي وخال من المجاملة – ومعه تفسير آخر أكثر تعقيداً وتأييداً وجزماً.
وضمن مشروع بحثي أطلقه المعهد الأميركي للصحة وشمل دراسة لمسار نمو أكثر من مئة شاب وشابة على مدى تسعينيات القرن الـ 20؛ أظهرت مجموعة الصور الدماغية التامة، التي تعد الأولى من نوعها للدماغ النامي للمراهقين، بأن أدمغتنا تمر عبر عملية إعادة تنظيم واسعة ما بين سن الـ 12 والـ 25. وفي الواقع لا ينمو الدماغ كثيراً خلال هذه الفترة، حيث يكون قد بلغ 90 بالمئة من حجمه الكامل بحلول السادسة من العمر، أما نمو الرأس الذي يلي هذه الفترة فيعزى في معظمه إلى ازدياد سمك الجمجمة. غير أن دماغنا، ونحن نجتاز مرحلة المراهقة، يخضع لإعادة تشكيل مكثفة، شبيهة بتحديث وترقية شبكة معلوماتية.
كيف ذلك؟ من بين التغيرات الأساسية كون محاور الدماغ (Axons) – وهي الألياف العصبية الطويلة التي تستخدمها العصبونات لإراسل إشارات إلى عصبونات أخرى – تصبح بالتدرج مكسوة أكثر بمادة دهنية تسمى الميلين (مادة الدماغ البيضاء)، ما يسمح في نهاية المطاف بتحسين سرعة النقل لدى المحاور حتى 100 ضعف. وفي غضون ذلك فإن التغصنات (dendrites)، وهي تلك التمديدات المتشعبة التي تستخدمها العصبونات في تلقي الإشارات من المحاور القريبة؛ تنمو لتصبح أكثر تشعباً، في حين تنتعش وتتقوى التشابكات العصبية الأكثر استعمالاً (والتشابكات العصبية "Synapses" هي تلك الوصلات الكيمائية الصغيرة التي تُنقل عبرها الإشارات الواردة من المحاور والتغصنات). وفي الوقت نفسه، فإن التشابكات العصبية التي يقل استخدامها تأخذ في الاضمحلال ثم الزوال. وهذا التشذيب، كما يطلق عليه، يجعل القشرة الدماغية – الطبقة الخارجية للمادة الرمادية حيث يجري معظم تفكيرنا الواعي والمعقد – أرفع حجماً، لكن بنجاعة أكبر. وهذه التغيرات مجتمعة تجعل من الدماغ ككل عضواً أسرع وأكثر تطوراً وتعقيداً بكثير مما كان عليه من قبل.
وتستمر سيرورة النضج هذه، التي كان يُعتقد أنها تنتهي في مجملها عند سن السادسة، عبر مرحلة المراهقة. وتُظهر الصور الدماغية التي أُخذت خلال تسعينيات القرن الـ20 أن هذه التغيرات الفيزيائية تتحرك في مراحل بطيئة من مؤخرة الدماغ إلى مقدمته؛ انطلاقاً من مناطق قريبة من جذع الدماع تنظم وتتحكم في وظائف أساسية قديمة وأكثر ارتباطاً بالسلوكيات، مثل الإبصار، والحركة، وعمليات المعالجة الأساسية؛ إلى مناطق التفكير الأحدث تطوراً والأكثر تعقيداً في الفص الجبهي. أما المقرن الأعظم (Corpus Collosum) الذي يربط بين النصفين الأيمن والأيسر من الدماغ وينقل المعلومات الضرورية لإنجاز العديد من الوظائف الدماغية المتقدمة، فإنه يصير أكثر سمكاً على نحو مضطرد. كما تنشأ وصلات أكثر متانة بين قرين آمون (Hippocampus)، وهو جهاز مسؤول عن الذاكرة، والمناطق الجبهية التي تتولي تسطير الأهداف وتقدير الحجج المؤيدة والحجج المعارضة في اتخاذ مختلف القرارات. والنتيجة أننا نبلي بلاء أحسن في الجمع بين ذاكرتنا وتجربتنا السابقة عند اتخاذ القرارات. وفي ذات الوقت، فإن المناطق الجبهية تطور سرعة أعلى ووصلات أكثر فعالية، ما يمنحنا القدرة على خلق تقديرات لعدد من الأهداف والإمكانيات أكثير بكثير من السابق.
وعندما يسير هذا التطور بشكل عادي، فإن قدرتنا تتحسن بشأن موازنة الاندفاعات والرغبات والأهداف والمصالح الذاتية والقواعد والأخلاق، بل حتى الإيثار، والتحكم فيها؛ ما يجعلنا ننتج سلوكاً أكثر تعقيداً، وفي بعض الأحيان على الأقل، أكثر رجاحة ورشداً. لكن في أحايين أخرى، لاسيما في بداية سيرورة النضج، فإن الدماغ يقوم بهذا العمل بأسلوب أخرق؛ إذ من الصعب توليف كل هذه النظم والمناطق الجديدة بشكل متسق ومنسجم.
وعندما يسير هذا التطور بشكل عادي، فإن قدرتنا تتحسن بشأن موازنة الاندفاعات والرغبات والأهداف والمصالح الذاتية والقواعد والأخلاق، بل حتى الإيثار، والتحكم فيها؛ ما يجعلنا ننتج سلوكاً أكثر تعقيداً، وفي بعض الأحيان على الأقل، أكثر رجاحة ورشداً. لكن في أحايين أخرى، لاسيما في بداية سيرورة النضج، فإن الدماغ يقوم بهذا العمل بأسلوب أخرق؛ إذ من الصعب توليف كل هذه النظم والمناطق الجديدة بشكل متسق ومنسجم.
بياتريز لونا، بروفيسورة الطب النفسي في جامعة بيتسبورغ، تستعمل التصور العصبي (Neuroimaging) لدراسة المراهقين؛ وقد استخدمت اختباراً بسيطاً يوضح هذه السيرورة من التعلم. وأجرت لونا مسحاً ضوئياً لأدمغة الأطفال والمراهقين ومن هم في العشرينات حينما كانوا يؤدون اختبار سلوكياً، وهو عبارة عن لعبة فيديو تُلعب بالعين فقط، ويتوجب فيها على اللاعب منع نفسه من النظر إلى ضوء يظهر فجأة. وهناك علامة حمراء تُرى في وسط الشاشة بين الفينة والأخرى وتختفي بمجرد أن يومض نور في مكان آخر في الشاشة. وعلى المشارك في هذه اللعبة عدم النظر إلى النور بل النظر في الاتجاه المعاكس، بحيث يعمد مستشعر إلى رصد جميع حركات العين. وهذا تمرين صعب، لأنه من الطبيعي أن يثير ضوء وامض انتباهنا. وللنجاح في الاختبار، عليك التغلب على اندفاع طبيعي يحثك على الاستجابة لمعلومة جديدة وعلى إشباع فضولك تجاه شيء محظور (أي الضوء). ويسمي علماء الأعصاب هذا الأمر كبح الاستجابة.
ويجد البالغون عشر سنوات صعوبة كبيرة جداً في هذا الامتحان، إذ يخفق حوالي 45 بالمئة منهم. أما المراهقون فأداوهم أحسن بكثير؛ فبحلولهم الـ 15 ربيعاً يمكنهم تحقيق نتيجة تُعادل ما يحققه الراشدون إذ ما كانوا متحمسين، حيث يتمكنون من مقاومة الاستجابة للضوء لما يقارب 70 إلى 80 بالمئة من وقت الاختبار. لكن أكثر ما أثار اهتمام لونا لم تكن هذه النتائج، بل المسوحات الضوئية للدماغ التي أخذتها أثناء اجتياز المشاركين للاختبار. وقياساً بالراشدين، فقد كان المراهقون يميلون إلى استخدام أقل لمناطق الدماغ التي تتحكم في الأداء. واكتشاف الأخطاء والتخطيط، والمحافظة على التركيز؛ وهي مناطق بدا أن الراشدين يجنحون إلى تشغيلها بصفة آلية. وهذا الاختلاف يجعل الراشدين يستعملون تشكيلة متنوعة من موارد الدماغ، ويقاومون الإغراء أكثر، في حين يستخدم المراهقون هذه المناطق استخداماً أقل، ويميلون أكثر للاستسلام والنظر إلى الضوء الوامض؛ تماماً مثلما هم مياليون أكثر إلى تحويل بصرهم عن الطريق لقراءة رسالة نصية أثناء القيادة.
لكن عند التحفيز بمكافأة إضافية، أظهر المراهقون أنهم قادرون على دفع هذه المناطق التنفيذية للعمل أكثر، محسنين بذلك نتيجتهم. وببلوغ سن العشرين، فإن أدمغتهم تصبح أكثر استجابة لهذا الاختبار بنفس درجة الراشدين. وتعتقد لونا أن هذا التحسن في الآداء يحصل لآن المنطقة التنفيذية تصير أكثر فاعلية بفعل شبكات أغنى ووصلات أسرع. وتساعد هذه الدراسات في شرح الأسباب وراء تصرفات المراهقين المتقلبة على نحو محبط؛ ومنها التسلية على مائدة الإفطار، والقرف من وجبة العشاء؛ والهمة والنشاط في بداية الأسبوع والإرهاق التام في نهايته. ومع فقدان التجربة عموماً، فهم لا يزالون يتعملون استخدام شبكات دماغهم الجديدة. ويمكن للإجهاد والإعياء أو التحديات أن تحدث خللاً في وظيفة الدماغ لديهم. وتلقب أبيغيل بيرد، عالمة نفس من كلية فاسار بنيويورك، تَدرس المراهقين؛ هذا الأمر بالخرَق العصبي – وهو مقابل للخرق الجسدي الذي يظهره المراهقون أحياناً عند التفاعل مع أجسامهم النامية.
إن هذا المنحى التطوري البطئ والمتغير الذي كشفت عنه هذه الدراسات على الصور الدماغية، يعطي تفسيراً رصيناً وملفتاً حول الدافع وراء إقبال المراهقين على أفعال طائشة، كالقيادة بسرعة 182 كيلومتراً في الساعة، وإغضاب الآباء، والوقوع في المحظورات: إنهم يتصرفون على ذلك النحو، لأن أدمغتهم لم تكتمل بعد! وهذا ما توضحه المسوحات الضوئية بجلاء. إن هذه النظرة، كما وصفها سيل من العناوين الصادرة في المنشورات العلمية والمقالات العامة حول "دماغ المراهق"، تجعل من المراهقين "مشروعاً قيد التطوير" ويدفع "دماغهم غير الناضج" بالبعض إلى التساؤل عما إذا كانوا في حالة "شبيهة بالتخلف العقلي".
غير أن الموضوع الذي أنتم بصدد قراءته الآن يقدم رأياً علمياً مختلفاً حول دماغ المراهق. فخلال السنوات الخمس الماضية، أو نحو ذلك، وحتى في ظل انتشار نظرية "المشروع قيد التطوير" في ثقافتنا، صقل الباحثون في دماغ المراهق نظرياتهم وجعلوها أكثر تطوراً على نحو خاص بهم. فقد بدأت ثلة منهم تنظر إلى النتائج الحديثة للدراسات الدماغية والجينية بعين أكثر رضا وإيجاباً فيما يخص سلوكيات المراهق؛ وهي نظرة من وحي وصلب نظرية التطور. وقد أفرز هذا الاتجاه تفسيراً جديداً لدماغ المراهق – سمّه قصة المراهق المتكيف – تقلل من النظرة إلى المراهق على أنه نسخة خام غير مكتملة من الراشد، بل وتبرزه بشكل بارع كمخلوق واع بمحيطه وعالي التكيف، يكاد يكون مهيأ إلى حد الكمال من أجل الانتقال من البيت وأمانه إلى العالم الخارجي وتعقيداته.
ومن المرجح أن هذه النظرة ستروق للمراهقين أنفسهم. لكن ما يهم أكثر هو أنها تنسجم مع أهم أساس في علم الأحياء وأبرزه، ألا وهو الانتقاء الطبيعي. فهذا الأخير عدو قاتل للخصائص المعيبة أو القاصرة عن أداء وظائفها. وإذا كانت المراهقة في الأساس رزمة من هذه الخصائص – الذعر، البلاهة، العجلة؛ والاندفاع، والأنانية، والمشي باضطراب وتهور – فكيف صمدت هذه الخصائص إذن أمام امتحان الانتقاء؟ والجواب أنه ما كان بوسعها البقاء لو كانت فعلاً هي أساس هذه المرحلة وخصائصها الأكثر تأثيراً. وبيان ذلك أن هذه السمات المزعجة لا تميز فترة المراهقة حقاً؛ وإنما هي أكثر ما نلاحظ كونها تزعجنا أو تضع أبناءنا في خطر. وعلى حد تعبير بي. جي. كايسي، وهي عالمة أعصاب من كلية ويل كورنيل الطبية، قضت قرابة عقد من الزمن تطبق ما توصلت إليه دراسات الدماغ والجينات على فهمنا للمراهقة؛ فـ "إننا معتادون كثيراً على اعتبار المراهقة مشكلة. لكن كلما زاد ما نعرفه عما يجعل هذه الفترة فريدة من نوعها، أخذت المراهقة تتجلى في أعيننا على أنها مرحلة في غاية الوظيفية، بل وحتى التكيفية. إنها بالضبط المرحلة التي يحتاجها الدماغ ليتكيف مع عملية الانتقال من الطفولة إلى البلوغ".
وحتى نرى أبعد من الولد المشوش والمغفل ونلقى نظرة من الداخل على المراهق المتكيف، يجب علينا ألا ننظر إلى تصرفات معينة، وأحياناً ملفتة للنظر، مثل التزحلق على السلالم ومصاحبة أشخاص غير مرغوب فيهم؛ بل إلى الخصائص الأوسع التي تقف وراء هذه الأفعال.
ولنبدأ بولع المراهقين بركوب المخاطر والإثارة. جميعنا يحب الأمور المثيرة والجديدة، لكن ما من فترة في العمر نحب فيها هذه الأشياء ونقدرها مثل ما نفعل في سنة المراهقة. ففي هذه السن نكون أكثر ما نكون تواقين إلى ما يسميه علماء السلوك السعي وراء الإثارة؛ ذلك السعي المحموم لاستثارة الأحاسيس، وتلك الرجة التي يحدثها فينا كل ما هو غير مألوف وغير متوقع. وهذا السعي وراء الإثارة ليس بالضرورة أمراً اندفاعياً. فبوسعك أن تخطط لتجربة مثير – مثل القفز بالمظلة أو سباق السرعة – عن طريق تدبير مسبق، مثلما فعل ابني. وعموماً تتضاءل حدة هذا الحس الاندفاعي، الذي يبدأ عندنا في سن العاشرة تقريباً، مع تقدمنا في السن، لكنه يبلغ أوجه عن سن الخامسة عشرة. وعلى الرغم من أن السعي وراء الإثارة قد يقود إلى تصرفات خطيرة، إلا أن من شأنه إنتاج سلوكيات إيجابية أيضاً: فالرغبة مثلاً في التعرف على أناس أكثر، قد توسع دائرة الأصدقاء، ما يساعدنا بوجه عام على أن نكون أوفر صحة وأكثر سعادة وأماناً ونجاحاً.
ولعل هذه الحسنة للسعي وراء الإثارة هي ما يفسر لماذا يظل الانفتاح على ما هو جديد، رغم ما يمكن أن ينطوي عليه من مخاطر، أحد أبرز سمات النمو في مرحلة المراهقة. فحب الجديد يؤدي بالضرورة إلى تجارب مفيدة. والسعي وراء الإثارة يوجد الإلهام الضروري "لإخراجك من دفء البيت" وإدخالك إلى صقيع معترك الحياة، على حد تعبير جاي غيد، الباحث الرائد في مجال نمو دماغ المراهقين، لدى المعهد الأميركي للصحة. وهناك خاصية أخرى – لعلها أكثر ما يثير غضب الكبار – تصل ذروتها عند المراهق؛ وهي حب المجازفة. فنحن نعشق ركوب المخاطر في مراهقتنا أكثر من أي مرحلة عمرية أخرى. وهذه حقيقة تؤكدها التجارب المختبرية، حيث يميل المراهقون أكثر إلى المجازفة في التجارب الخاضعة للتحكم والمراقبة والتي تشمل كل شيء، من لعب الورق حتى القيادة بالمحاكاة. كما أن هذه الحقيقة تؤكدها الحياة اليومية، إذ إن الفترة مابين 15 و 25 سنة تقريباً هي التي تسجل فيها أخطر المغامرات ومعها أسوأ النتائج. فهذه الفئة العمرية تلقى حتفها جراء حوادث من جميع الأصناف تقريباً (دون احتساب حوادث العمل) بمعدلات مرتفعة. وتبدأ أغلب حالات الإدمان الطويلة على المخدرات والكحول في سن المراهقة، وحتى أولئك الذين يشربون الكحول باعتدال في كبرهم، تجدهم كانوا مسرفين في شرابهم خلال المراهقة.
فهل هؤلاء الأولاد مجرد زمرة من الأغبياء؟ إليكم الجواب التقليدي إنهم لا يفكرون، أو حسب منظور "المشروع قيد التطوير"، فإن أدمغتهم الضعيفة هي من تخذلهم.
غير أن هذه التفسيرات ليست بالمقنعة أو الدقيقة. وكما يبين لورنس ستينبرغ، عالم النفس والإرتقائي والمتخصص في المراهقة، من جامعة تامبل؛ فحتى أكبر المخاطرين – من 14 إلى 17 سنة – يستخدمون نفس الاستراتيجيات العقلية الأساسية التي يستخدمها الراشدون، وعادة ما يجدون لأنفسهم مخرجاً من المشاكل بنفس مهارة الكبار. وبخلاف الاعتقاد الشائع، فإنهم هم أيضاً واعون تماماً أنهم فانون؛ وعلى غرار الراشدين، يقول ستينبرغ، فإن "المراهقين في واقع الأمر لا يستهينون بحجم المخاطر". وإذا كان المراهقون يفكرون مثل الراشدين، وواعون بالمخاطر مثلهم، فلماذا يميلون إذا إلى المخاطرة أكثر؟ وهنا، كما في تفسيرا أخرى، فإن المشكل لا يتعلق بما ينقص المراهقين من صفات دماغية قياساً مع الكبار، بقدر ما هو مرتبط بما لديهم أكثر من غيرهم. فالمراهقون يجازفون أكثر ليس لأنهم لا يستوعبون المخاطر الكامنة، بل لأنهم يقيّمون الخطر والمكسب بشكل مختلف؛ ففي المواقف التي يمكن أن يستخلصوا خلالها من الخطر شيء يرغبون فيه، فإنهم أحرص من الراشدين على تعظيم المكاسب.
غير أن هذه التفسيرات ليست بالمقنعة أو الدقيقة. وكما يبين لورنس ستينبرغ، عالم النفس والإرتقائي والمتخصص في المراهقة، من جامعة تامبل؛ فحتى أكبر المخاطرين – من 14 إلى 17 سنة – يستخدمون نفس الاستراتيجيات العقلية الأساسية التي يستخدمها الراشدون، وعادة ما يجدون لأنفسهم مخرجاً من المشاكل بنفس مهارة الكبار. وبخلاف الاعتقاد الشائع، فإنهم هم أيضاً واعون تماماً أنهم فانون؛ وعلى غرار الراشدين، يقول ستينبرغ، فإن "المراهقين في واقع الأمر لا يستهينون بحجم المخاطر". وإذا كان المراهقون يفكرون مثل الراشدين، وواعون بالمخاطر مثلهم، فلماذا يميلون إذا إلى المخاطرة أكثر؟ وهنا، كما في تفسيرا أخرى، فإن المشكل لا يتعلق بما ينقص المراهقين من صفات دماغية قياساً مع الكبار، بقدر ما هو مرتبط بما لديهم أكثر من غيرهم. فالمراهقون يجازفون أكثر ليس لأنهم لا يستوعبون المخاطر الكامنة، بل لأنهم يقيّمون الخطر والمكسب بشكل مختلف؛ ففي المواقف التي يمكن أن يستخلصوا خلالها من الخطر شيء يرغبون فيه، فإنهم أحرص من الراشدين على تعظيم المكاسب.
وتعكس لعبة فيديو يستخدمها ستينبرغ هذه المقارنة بأسلوب ظريف. وتتطلب هذه اللعبة من اللاعب القيادة عبر المدينة في أقل وقت ممكن. وفي الطريق، تصادفه العديد من إشارات المرور الضوئية. وكما هو الحال في الواقع، فإن الأضواء قد تتغير من أخضر إلى أصفر، عند اقترابك منها، وهو مايرغمك على اتخاذ قرار سريع إما بالتوقف أو العبور. وإذا ما قطعت قبل الضوء الأحمر، فإنك توفر الوقت وتسجل نقاطاً أعلى، أما إذا ماحاولت المرور والإشارة حمراء دون النجاح في تجاوز التقاطع بالسرعة اللازمة، فإنك ستخسر وقتاً أطول بكثير من الوقت الذي كنت ستخسره في انتظار الإشارة الخضراء. وهكذا فإن هذه اللعبة تكافئك على ركوب قدر محدد من المجازفة، لكنها تعاقبك عند المبالغة فيها. وعندما يقود المراهقون بمفردهم، في ما يسميه ستينبرغ الوضع الوجداني "الهادئ" الذي توفره غرفة خالية، فإنهم يجازفون بمستويات تكاد تعادل مستويات مجازفة الكبار. وإذا أضفنا إلى اللعبة عناصر أخرى يهتم لوجودها المراهقون دون غيرهم، فإن الوضع يتغير. وفي هذه الحالة فقد أضاف ستينبرغ الأصدقاء؛ فعندما حضر أصدقاء أحد المراهقين إلى الغرفة لمشاهدة قرينه وهو يلعب، صار هذا الأخير يغامر أكثر من السابق بمرتين، محاولاً التجاوز السريع للإشارات التي كان يتوقف عندها في السابق. وفي غضون ذلك، لم يتغير أسلوب القيادة لدى الراشدين ولو تحت أنظار أصدقائهم.
وبحسب ستينبرغ، فإن هذه التجربة تظهر جلياً بأن الإقدام على المجازفة ناجم بالأساس عن تقدير أكبر للمكاسب وليس جراء التفكير القاصر. يقول ستينبرغ "لم يكن قرارهم رفع درجة المجازفة نتيجة تقليلهم المفاجئ من شأن المخاطر، بل فعلوا ذلك لأنهم أعطوا أهمية أكبر للمكافأة". ويعتقد الباحثون من أمثال ستينبرغ وكيسي أن هذا الأسلوب المفضى للمجازفة الذي يوازن بين الكلفة والمكسب، صمد إلى اليوم أمام الانتقاء الطبيعي لكون الإرادة في ركوب المجازفات خلال المراهقة منحت الإنسان ميزة تكيفية فائقة، عبر مسار التطور البشري. والنجاح عادة ما يتطلب الرحيل عن البيت والأهل وركوب غمار مواقف وتجارب ليست آمنة بالضرورة. ويقول بيرد، "كلما بحثت أكثر عن الجدة والمجازفة، إلا وكان بلاؤك أحسن". وبالتالي فإن هذه الاستجابة للمكافأة تعمل مثل الرغبة في إثارة جديدة؛ فهي تخرجك من البيت وتدخلك مضماراً جديداً.
وكما تشير إلى ذلك لعبة القيادة التي جاء بها ستينبرغ، فإن المراهقين يستجيبون بقوة للمكافأت الاجتماعية. وتقدم الفسيولوجيا ونظرية التطور معاً تفسيرات لهذه النزعة. أما على مستوى علم النفس، فإن المراهقة تحدث ذروة في درجة حساسية الدماغ للدوبامين، وهو ناقل عصبي يبدو أنه هو من يعدّ ويفعّل الدارات المسؤولة عن الرغبة في المكافأة ويساعد في أنماط التعلم واتخاذ القرارات. وهذا يساعد في تفسير سرعة التعلم لدى المراهقين واستعدادهم المذهل لاستقبال المكافأة – فضلاً عن تفاعلهم القوي، بل الدرامي في بعض الأحيان، مع النجاح والفشل على حد سواء. كما أن دماغ المراهق يتأثر على نحو مماثل بالأكسيتوسين، وهو هرمون عصبي آخر، يعمل (ضمن وظائف أخرى) على جعل الارتباطات الاجتماعية تحديداً أكثر متعة. فيما يحدث تداخل كثيف بين الشبكات والديناميات العصبية المرتبطة بالمكافأة العامة، والتفاعلات الاجتماعية. فإذا ما تم تفعيل واحدة، عادة ماتشتغل الأخرى كذلك؛ وبالتالي فإن تفعيلها جميعاً في مرحلة المراهقة بمثابة قدح زناد أو إطلاق شرارة يافع متوهج.
وهذا الأمر يساعد في تفسير خاصية أخرى من الخصائص التي تميز المراهقة؛ وهي أن المراهقين يفضلون رفقة أقران في مثل سنهم في هذه المرحلة بالتحديد أكثر من أي مرحلة أخرى. وهذا الانجذاب نحو أقران من نفس العمر ما هو إلا تعبير ضمن المجال الاجتماعي عن انجذاب المراهقين بوجه عام نحو ماهو جديد وغير مألوف؛ فالمراهقون يمنحون بعضهم بعضاً تجارب جديدة أكثر بكثير مما يمنحهم الكبار في العائلة، الذين لا تخرج تجاربهم عن دائرة المألوف. غير أن المراهق ينجذب إلى أقرانه لسبب آخر أكثر وجاهة، يكمن في الاستثمار في المستقبل بدل الماضي. فنحن ندخل عالماً صنعه آباؤنا، لكننا سنعيش أغلب أيام عمرنا وسنزدهر (أو ربما لا) في عالم يديره أقراننا ويعيدون صنعه بطريقتهم الخاصة. ويرتبط نجاحنا ارتباطاً وثيقاً بمعرفتهم، وفهمهم، ونسج العلاقات معهم. فالجرذان والقردة الحذقة اجتماعياً، على سبيل المثال، تحصل بشكل عام على أفضل الأماكن أو المناطق لبناء أوكارها، وأكبر قدر من الطعام والماء، وأكثر الحلفاء، وتتناسل مع شركاء أفضل وأنسب. وكما نعرف جميعنا فما من جنس حيواني يفوق البشر من حيث خصائصه الاجتماعية العميقة والمتشابكة. وهذه السمة البشرية بامتياز تجعل من علاقات الأقران أهم العلاقات وأبرزها، وليس مجرد روابط إضافية وثانوية. وفي الواقع، تشير بعض الدراسات حول مسوحات ضوئية للدماغ بأن هذا الأخير يتفاعل مع الإقصاء الاجتماعي الصادر من الأقران بنفس القوة التي يتجاوب بها مع التهديدات الجسدية أو الغذائية. وبعبارة أخرى، فإننا ننظر إلى الإقصاء الاجتماعي كتهديد لوجودنا. ولعل هذه المعرفة الجديدة قد تساعدنا في تقبل حالة الهستيريا التي تنتاب ولداً في الـ 13 خدعه أحد أصدقائه، أو الأسى الذي يحل بآخر في الـ 15 لم يُدع إلى حفل.
إن الحماس، والجِدة، ورفقة الأقران؛ كلها سمات قد يبدو لنا أن لا خير فيها للمراهقين عدا جعلهم يرتكبون حماقات مع أصدقائهم. لكن إذا ما أمعنا النظر أبعد من المظاهر، فإننا سنجد أن هذه السمات التي تحدد المراهقة تجعلنا أكثر قدرة على التكيف، كأفراد وكجنس من الكائنات على حد سواء. ولهذا فلا عجب أن هذه السمات تبدو، بالمعنى الواسع، متمظهرة في جميع الثقافات البشرية تقريباً، العصرية منها والقبلية. ولعلها أكثر تركزاً ووضوحاً في الثقافات الغربية المعاصرة، حيث يقضي المراهقون وقتاً طويلاً للغاية مع بعضهم البعض؛ ولو أن الأنتربولوجين توصلوا إلى أن ثقافات العالم جميعها تقريباً تعتبر المراهقة مرحلة مميزة يفضل فيها المراهقون الجدة، والإثارة، والأقران. وشبه الإجماع العالمي هذا يدحض الفكرة القائلة بأن المراهقة ما هي إلا بدعة ولدت من رحم الثقافة. لا مراء في أن الثقافة ترسم معالم المراهقة، في التي تحدد تمظهراتها السلوكية وربما مدتها، بل يمكنها حتى تهويل تجلياتها. ومع ذلك فإن الثقافة لا تخلق المراهقة. فعنصر التفرد والتميز في هذه الفترة مصدره جيناتنا والعمليات التطورية التي تم انتقاؤها عبر آلاف الأجيال البشرية لكونها تلعب دوراً أعظم أثناء هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة؛ ألا وهو إعداد مخلوق مؤهل على أمثل وجه لمغادرة حِمى البيت وشق طريقه عبر دروب غير مألوفة في الحياة.
إن هذا الخروج من البيت لهو أصعب وأهم خطوة يخطوها بنو البشر – ليس فقط باعتبارهم أفراداً، بل كجنس من المخلوقات أظهر على مر الأزمنة قابلية لا مثيل لها على بسط نفوذه على بيئات عيش جديدة وصعبة المراس. وبلغة العلم، قد يكون المراهقون بمثابة همّ يؤرق البال، لكن من الممكن جداً أنهم أوسع البشر قدرة على التكيف الحاسم في الحياة. فمن دونهم، ربما ماكان للبشرية أن تنتشر عبر العالم والتكيف مع بيئاته بهذه الصورة التي نراها اليوم.
وقد يصعب تقبل نظرة المراهقة التكيفية هذه، مهما بلغت دقتها ورصانتها، لا سيما من قبل آباء يتعاملون مع مراهقين يعيشون هذه الفترة لكل أوقاتها العصيبة والمروعة. قد نثلج صدورنا إذا مانحن فسرنا هذه الجوانب المقلقة على أنها إشارات يصدرها كائن ما يتعلم كيف يتعايش مع محيطه. لكن الانتقاء الطبيعي لا يقبل الخطأ، ولحظات المراهق المتهورة قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه. فقد لا نجازف بحياتنا بخوض معارك طقوسية أو مصارعة السباع، لكننا يمكن أن نلقى حتفنا جراء الانغماس في المخدارت، والكحول، والقيادة المتهورة، والجريمة. فإبني اليوم طالب جامعي، وهو يعيش حياة مزدهرة من دون سيارة. لكن عدداً من أصدقائه إبان الثانوية قُتلوا في حوادث مرورية وهو وراء المقود. فأبناؤنا إذن يتقنون استخدام آلتهم التكيفية الطيّعة في خضم مخاطر صغير لكنها فظيعة.
وقد يصعب تقبل نظرة المراهقة التكيفية هذه، مهما بلغت دقتها ورصانتها، لا سيما من قبل آباء يتعاملون مع مراهقين يعيشون هذه الفترة لكل أوقاتها العصيبة والمروعة. قد نثلج صدورنا إذا مانحن فسرنا هذه الجوانب المقلقة على أنها إشارات يصدرها كائن ما يتعلم كيف يتعايش مع محيطه. لكن الانتقاء الطبيعي لا يقبل الخطأ، ولحظات المراهق المتهورة قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه. فقد لا نجازف بحياتنا بخوض معارك طقوسية أو مصارعة السباع، لكننا يمكن أن نلقى حتفنا جراء الانغماس في المخدارت، والكحول، والقيادة المتهورة، والجريمة. فإبني اليوم طالب جامعي، وهو يعيش حياة مزدهرة من دون سيارة. لكن عدداً من أصدقائه إبان الثانوية قُتلوا في حوادث مرورية وهو وراء المقود. فأبناؤنا إذن يتقنون استخدام آلتهم التكيفية الطيّعة في خضم مخاطر صغير لكنها فظيعة.
أما نحن الآباء فإننا نقترف الزلات أيضاً كلما حاولنا المشي على ذلك الخط الرفيع الذي يفصل بين مساعدة أطفالنا وعرقلة سبيلهم التكيفي للارتقاء نحو سن الرشد. وتضخ الولايات المتمحدة، على سبيل المثال، نحو مليار دولار سنوياً في برامج إرشاد المراهقين وتوعيتهم حول شرور العنف، والعصابات، والانتحار، والجنس، والإدمان، وغيرها من المهالك الأخرى؛ لكن معظم هذه البرامج يبقى غير ذي جدوى. ومع ذلك يمكننا أن نساعدهم، بل نفعل ذلك حقاً. ففي وسعنا أن ندرأ عنهم بعضاً من أسوأ المخاطر في العالم ثم ندفعهم للتجاوب بأنسب السبل مع بعضها الآخر. وتظهر الدراسات أن الآباء عندما يتواصلون بنجاعة مع ولدهم المراهق ويرشدونه برفق وثبات، مبقين بذلك على هذا التواصل دون خنق حريته؛ فإنه يكون بوجه عام أحسن حالاً عند الرشد. فالمراهقون يودون التعلم أساساً، وليس كلياً، من أصدقائهم. لكن في مرحلة ما وفي لحظات معينة (وعلى الوالدين معرفة ذلك)، يدرك المراهق أن الوالدين بوسعهما منح شيء من الحكمة – وتلك معرفة يقدرها المراهق لأنها لا تأتي من سلطة الوالدين بل من مجهوداتهم السابقة لفهم أحوال العالم وتعقيداته. ويدرك المراهق تمام الإدراك أن من واجبه استيعاب العالم الذي هو بصدد اقتحامه، وليس عالم والديه فحسب. وإذا ما سُمح له بالنفاذ إلى هذا الفهم دونما فرض من أحد، فقد يرتاح لمعرفة أن والديه، ذات زمن، كانا يواجهان ذات المشاكل وقد يفيدانه ببعض الأمور الجديرة بالتذكير.
وفي غضون ذلك، عندما نكون في شك من أمرنا، علينا أن نلتمس الإلهام في ميزة أخيرة من ميزات دماغ المراهقين؛ وهو المفتاح الأخير لفهم خرقه وتكيفه الهائل على حد سواء. إنها المرونة الممتدة لتلك المناطق الجبهية التي تنمو أخيراً وهي في طور النضح على مهل. وكما سبقت الإشارة، فإن هذه المناطق هي آخر ما يتغلف بغشاء الميلين المتشحم التي تسرّع نقل المعلومات. ومن نظرة أولى خاطفة، قد يبدو هذا الأمر كما لو أنه خبر سيء؛ فإذا كنا نحتاج هذه المناطق لتساعدنا في تلك المهمة المعقدة المتمثلة في اقتحام العالم، فلماذا لا تعمل بسرعتها الكاملة في تلك الفترة التي يواجه فيها المراهق أسوأ التحديات؟
قادة على الهامش... يمكن لشخص راشد أن يقود المراهقين كمايسترو، أو مدرب، أو قائد مشجعين. فما عليه سوى أن يعرف متى يتراجع، ويتركهم يقومون بالعمل؛ بحسب عالمة الأعصاب بي. جي. كايسي. |
الجواب هو أن السرعة والمرونة لا تلتقيان، إذ تتأتى الأولى على حساب الثانية. وإذا كانت غشاوة الميلين تزيد سرعة المحور العصبي بشكل هائل، فإنها في ذات الوقت تكبح نمو تشعبات جديدة انطلاقاً من المحاور. وحسب دوغلاس فيلدز، وهو عالم أعصاب من المعهد الأميركي للصحة قضى سنوات طويلة في دراسة الميلين؛ فإن "هذا يجعل من الفترة التي تتغلف فيها منطقة دماغية بالميلين فترة حاسمة جداً للتعلم – حيث التشبيك والربط يتحسنان كثيراً، لكن متى انتهت هذه العملية، يصعب جداً تغييرها". ويبقى الإطار الزمني الذي يمكن فيه لتجربة من تجاربنا الحياتية أن تعيد تشبيك تلك الوصلات على أفضل نحو، مختلفاً تمام الاختلاف بين منطقة دماغية وأخرى. ولذا فإن المراكز الدماغية المسؤولة عن اللغة تتغلف بشكل أكبر في السنوات الـ 13 الأولى؛ حينما يكون الطفل في طور تعلم اللغة. ويعمل التغليف المكتمل على تعزيز تلك المكاسب – لكنه يجعل من تحقيق مكاسب أخرى، مثل تعلم لغة ثانية، أمراً صعب المراس. وكذلك الحال بالنسبة لعملية تغليف الجزء الأمامي من الدماغ في أواخر العقد الثاني من العمر وبداية العشرينات. فهذا الاكتمال المؤجل – الذي يؤخر الاستعداد – هو ما يعزز المرونة لحظة اقتحامنا للعالم الذي سنواجهه عند الرشد.
إن سيرورة النمو هذه، الطويلة والبطيئة والتي تبدأ من مؤخرة الدماغ إلى مقدمته، ولا تكتمل إلا في منتصف العشرينات من العمر، هي على ما يبدو تكيف بشري محض ومتفرد. ولعله التكيف الأعظم تأثيراً على حياتنا كجنس مختلف عن باقي الحيوانات. وقد يبدو من قبيل الحمق نوعاً ما أننا نحن بنو البشر لا نكتسب رجاحة في العقل في سن أبكر قليلاً؛ لكن الحكمة في ذلك أننا لو اكتسبنا ذكاءنا الكامل في وقت أقصر، لانتهى بنا المطاف مغفلين وأغبياء فيما تبقى من أعمارنا.
0 Comments